أوروبا حتى القرن السابع عشر. كما قام الطوسي بنقد أعمال أشهر علماء الفلك بطليموس، فألف كتاب "تحرير المجسطي لبطليوس" وكتاب "التذكرة النصيرية"، ووضع فيهما نصير الدين خلاصة أفكاره الفلكية حيث اقترح نموذجاً فلكياً علمياً يتفوق على نموذج بطليموس التقليدي. ونموذجه مع إصلاحاته الفلكية لما جاء في كتب بطليموس يُعد الخطوة الأخيرة التي مكنت كوبر نيكوس من الوصول إلى اكتشافاته الفلكية، وهناك الكثير من اكتشافات ومخترعات الطوسي نجدها منقولة في كتب كوبر نيكوس. وقبل الطوسي لم يكن يعرف علم المثلثات كعلم منفصل إلى أن جاء الأخير وأصله وجعله في كتابه "شكل القطاع" علماً مستقلاً بذاته. كما قام الطوسي بحساب مبادرة الاعتدالين في السنة ووجدها قريباً من 51 سنوياً، وهي قيمة قريبة من القيم المحسوبة حديثاً والمقدرة بـ50.2567.
توفي الطوسي في بغداد سنة 672 هـ، ودفن في الكاظمية.
ومهما يكن فإن كثيرا من علماء السنة، فضلا عن الشيعة، جعلوه في مكانة عالية من الناحية العلمية، حتى قال فيه الحافظ المحدث والمؤرخ العلامة الذهبي: "كان رأسا في علم الأوائل، لا سيما معرفة الرّياضيّات وصنعة الأرصاد، فإنّه فاق بذلك على الكبار"
بل واللافت أننا نجد من مؤرخي السُّنة من أثنى على أخلاقه، كابن شاكر والصفدي الذي قال: "دفع عن النَّاس أذاهم وعن بعضهم إزهاق أرواحهم (أثناء هجوم المغول على بغداد).
ولكن على النقيض من هذه الآراء، كان ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ممن قالوا في الطوسي قولا شنيعا.
قال ابن تيمية رحمه الله: وبالجملة فأمر هذا الطوسي وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف ومع هذا فقد قيل إنه كان في آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوى وبالفقه ونحو ذلك فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات والله تعالى يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} سورة الزمر لكن ما ذكره عنه هذا إن كان قبل التوبة لم يقبل قوله وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض بل من الإلحاد وحده.
ولئن كان المؤرخون على أصناف وآراء ثلاثة في الرجل، فمنهم من يتهمه بالخيانة صراحة كابن تيمية وابن القيم، ومنهم مَن ينفي التهمة أو لا يذكرها إطلاقا كابن الفُوَطي وابن شاكر والصفدي، ومنهم من يقف بين هؤلاء وأولئك لا يملك دليلا ملموسا لتأكيد هذا أو نفيه كابن كثير؛ فإن معاصر هذه الأحداث رشيد الدين الهمذاني أحد أبرز المعجبين بنصير الدين الطوسي يسرد لنا أحداثا ترجح الرأي القائل بخيانة الطوسي للخلافة العباسية وسعيه للقضاء عليها.
وبرغم ميله وحبه للعلوم الرياضية والفلكية، وبرغم تسويغ البعض ممن قال بأنه ترك الإسماعيلية وانضم للمغول لأنه وجد فيهم عونا له لتحقيق مشروعه العلمي؛ فإن ذلك التوجه العلمي كان ثمنه انحيازات سياسية دموية، فالرجل الذي بنى أعظم مرصد ومجمع للعلماء والفقهاء في عصره في منطقة مراغة بأذربيجان، قد بناه بعد سقوط بغداد بعام واحد سنة 657هـ، وكانت معظم مصنفات المكتبة الضخمة العظيمة، التي تجمع فيها أكثر من 400 ألف مجلد، من الكتب التي نُهبت من بغداد والشَّام والجزيرة كما يقول المؤرخ الصفدي في تاريخه "الوافي بالوفيات.
وهكذا يبدو نصير الدين الطوسي نموذجا حيا من التاريخ الإسلامي على انقلاب العالم أو المثقف على مبادئه بل وأتباعه ومريديه لأجل مصالحه الخاصة، فقد انقلب على الإسماعيلية الذين عاش بينهم ربع قرن وأصبح وزيرا لهم، وباعهم بثمن بخس إلى التتار، ثم انقلب على العباسيين، وتواطأ في مذابح راح ضحيتها مئات الآلاف، ليترك لنا سيرة مُخلَّطة بين تراثه العلمي وانحيازاته الدموية تستحق النظر والتأمل
تعليقات
إرسال تعليق