الحمد لله الذي أناط بالإنسان أمانة الاستخلاف في الأرض وأهله بتعليمه لعمارتها وإقامة العمران وفق قيم الوحي الهادية.
فقال تعالى: "ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ"
وقال تعالى: "اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ"
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإن الله مُسْتَخْلِفُكُمْ فيها فينظرَ كيف تعملون" صحيح مسلم
وبذلك التكليف الرباني انطلق الإنسان في رحلة الحياة، ينظر ويفكر، يعمل ويبني، فيخطئ ويصيب، يفشل وينجح، يقدر وينظم، يقارن ويقارب، ولكنه يسعى باستمرار؛ لاكتشاف الطرق والوسائل، والأدوات والمعارف، والتجارب الأفضل والأرقى، التي تيسر له مهمته وتمكنه من كسب أكبر، وتحقق له أهدافه المشروعة ومقاصد خلق الله له.
أهمية العلم:
ولعل قابلية التعلم، واكتساب المعرفة، والتراكم المعرفي، والملاحظة والتجربة، والخطأ والتصويب، وإبداع الطرق، والوسائل الأكثر جدوى، هو سبيل الإنسان إلى الترقي، والوصول إلى الأداء الأفضل.
أهمية الوحي:
وفي هذا السعي جميعه يستصحب المسلم هداية الوحي، التي تشكل له دليل العمل في شعب الحياة المختلفة، وتحدد له الوجهة والهدف، وتمثل له في الوقت نفسه المعيار، الذي يختبر فيه صوابية مسالكه.
فإن معرفة الوحي حفظت علينا كثيراً من طاقتنا من الهدر والضياع، كما حفظت حياتنا من أن تكون محل تجريب وضلال، واحتفظت لنا بخمائر النهوض، واختصرت لنا الطريق، وقدمت لنا تقويما للتجارب الإنسانية وخلاصة عطائها، ليشكل ذلك التراكم منجما معرفيا يوفر على الإنسان جهده وعمره، ومن ثم يؤهله لأن ينظر كيف يعمل ويقوم بعبء الاستخلاف.
أهمية السيرة:
وجسدت لنا السيرة النبوية قيم الوحي، وقدمت نماذج لتنظيم الدولة وإدارة المجتمع، وإمامة الناس وتربيتهم على القيم الفاضلة، والفصل في خصوماتهم، واحترام التخصص، وقدم الرسول صلى الله عليه وسلم بممارسته أنموذج الاقتداء.
فقال صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان
وقال صلى الله عليه وسلم: " أشِيرُوا أيُّها النَّاسُ عَلَيَّ" صحيح البخاري
ليوصل مبادئ في إدارة شؤون الحياة، ويوكل إلى المسلمين إدارة شؤونهم في ضوء معرفه الوحي.
مقومات النهوض ما تزال موجودة:
ولا شك عندنا أن خمائر النهوض ما تزال موجودة في هذه الأمة:
1- ما يتوفر لنا دون سائر الأمم من الخطاب الإلهي الصحيح، الذي ورد بطريق علمية تفيد علم اليقين.
2- ما نمتلك من تجربة حضارية تاريخية من تجسيد هذا النص( الوحي) في حياة الناس، سواء في مرحلة السيرة النبوية أو حقبة خير القرون، الأمر الذي يمنح القدرة على استئناف الدور الحضاري، والقيام بمقارنة ومواءمة لواقع الحال ابتداء من أدنى حالات الاستضعاف إلى أعلى درجات القوة والتمكين.
3- استمرار الطائفة القائمة على الحق التي قد تقل وتضعف لكنها لا تنقطع.
التي اخبر عنها الصادق المصدوق: "لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهِرِينَ" صحيح الجامع
والتي تجسد قيم الإسلام في حياة الأمة، وتدلل على خلوده وتجرده عن حدود الزمان والمكان دليلا عمليا لكل اصحاب الهم، الذي يبعث فيهم الهمة، ويدفعهم للتفكير بسبيل الخروج من الواقع، وابصار كيفيات معاودة إخراج الأمة؛ لتستأنف دورها الرسالي الحضاري من جديد.
الأمر الذي يعني دائماً وجود الشعله متوقدة، واستمرار النور - ولو كان ذلك ضئيلاً - وما نزال نسمع نماذج إسلامية رائعة قد تنتسب في صفاتها وعطائها إلى العصر الأول منهم: كتابا ومفكرين وعلماء وخبراء ومجاهدين مستمرين في المجاهدة والمحاولة والتطلع إلى الارتقاء.
4- ان من صفات هذه الأمة أنها كما أخبر عنها الصادق المصدوق لا تجتمع على ضلالة.
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" صححه الألباني
5- إن الحضارة الإسلامية شارك فيها كل الأجناس والألوان والأقوام والأزمان، وتعايشت واستوعبت كل الثقافات حتى اصبحت ملكا وحقا انسانيا يصعب لأية عنصر أو لون أو جغرافيا ادعائها أو احتكارها؛ لذلك لا يمكن أن تنقرض بانقراض أو تراجع أو تخلف أي من المؤمنين بها، فهي كالنجوم إذا غابت من مكان ظهرت في مكان آخر.
الاصلاح والنهوض:
لكن تبقى إشكالية الإصلاح والنهوض وهي تتلخص في:
1- اكتشاف هذه الخمائر واختيارها.
2- إمكانية التواصل البناء باخلاص.
3- إمتلاك الوسائل والأدوات للتوسع.
4- وضع استراتيجية طويلة الأمد للنهوض في ضوء الإمكانيات المتوفرة والظروف المحيطة ومرجعية الوحي.
5- التقويم والمراجعة والتعديل والتبديل في ضوء المعطيات الحياتية.
كيف ذلك ؟
وسؤال الكبير المطروح دائما: كيف نصنع هذه الرؤية؟ وكيف نقومها ونعدل ونبدل فيها؟
إننا بحاجة إلى المتخصصين الذين يشكلون أهل الحل والعقد، وهذا لا يتأتى بالخطب والأصوات والادعاء، وانما بتوفير الاختصاص في جميع شؤون الحياة؛ لأن الإسلام دين الحياة، ولا يمكن إقامة الحياة إلا بالنفرة لاستدراك شتى العلوم والمعارف وشعب المعرفة التي تشكل المناخ الثقافي، والعقل الجمعي، والخبرة المطلوبة.
ولو لم تكن النفرة مطلوبة لميادين الحياة المختلفة لاستكمال الوعي والفقه بجميع جوانب الحياة وفهم واقعها وتجاربها الميدانية لاكتفى خطاب الوحي واختصر على ساحة العلم بالأحكام الشرعية التي تتلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان المطلوب عدم مغادرة مجلسه!
والنفرة والسير في الأرض ليس لنشر قيم الدين فقط، وإنما للفقه بأليات وأدوات ووسائل نشر الدين أيضا، سواء كان فهم الواقع وميدان العمل وتنزيل القيم على حركة الحياة أو كان للتبصر بالسنن والقوانين، ففهم المسلمين أن الدين لبناء الدنيا وإقامة العمران وحسن إدارة الحياة بكل شعبها؛ هو المحرك لاستدراك مقومات الاستخلاف.
ولكن ثمة ملاحظات مهمة على تحصيل هذه العلوم.
كيفية التعامل مع العلوم الشرعية:
أولا: العلوم الشرعية:
إن معرفة الوحي وما ورد في الكتاب والسنة هو قيم ومعايير وموازين ومبادئ ومناهج وتحديد وجهات ومسارات.
لذلك فإن الخلط والالتباس بين المبادئ والبرامج، بين القيم والمعايير، وبين الانتاج والاجتهاد الانساني، الذي هو محل التقويم والمعايرة والمراجعة، والخلط بين معرفة الوحي ومداها ومجالها ووظيفتها ودورها، وبين معرفه العقل وميدانها ومداها ودورها، لا يزال يشكل الإشكالية والمعادلة الصعبة.
فهناك طرفي نقيض:
● من أوقف العقل عن التفكير باسم الورع المغشوش والرهبه من الابتداع في الدين، فعطلوا الإفادة من الوحي، والقدرة على تنزيله على واقع الناس وحياتهم.
وكان من الإفرازات السلبية لهذا الفقه القاصر والفهم المغشوش محاصرة الوحي والاكتفاء بترديده كشعارات، والاحتماء وراءها، بدل إعماله في الواقع بإبداع البرامج، وتعطل العقل عن وظيفته ودوره في فهم الوحي وابداع آليات.
● وعلى الجانب المقابل من أله العقل وألغى الوحي، وأعطى العقل مهمة وضع القيم والمعايير والتوجهات والمبادئ، فأصبح الإنسان بإسقاط معرفة الوحي هو الخصم وهو الحكم، هو المعيار وهو الفعل، هو القيم وهو الذات.
والحق أن بين الوحي والعقل تكامل وانسجام.
فتجد أغلب طلبة العلم تتمثل جهودهم في تقديم طبعات جديدة لطبعات قديمة، وفي أحسن الأحوال يتناول النص بالشرح والاختصار ثم الاختصار والشرح والاستدراك، لكن هذا كله يشكل نصف المطلوب الذي قد يتحول إلى جهود ضائعة ما لم يستكمل بالاجتهاد والتفكير في كيفية إعمال النص في ضوء الظروف المحيطة والامكانات والاستطاعات المتاحة، الأمر الذي يتطلب أدوات اجتهادية من نوع آخر، وشعب معرفية متعددة ومتنوعة.
كيفية التعامل مع العلوم الطبيعية والتطبيقية:
ثانيا: العلوم الطبيعية والتطبيقية:
إننا بحاجة إلى من ينفر من المسلمين إلى جامعات الغرب والشرق لتحصيل التخصصات التي لا تتوافر في بلادنا، وليتزودوا بالعلم ويرجعوا لينذروا قومهم، أو ليقبعوا في أماكنهم، دون أن تتحطم أعوادهم أو تفتر عزائمهم أو ينخدعوا ببريق الغرب والشرق، حتى إذا جاء وعد الانتفاضة، هبوا ليعيدوا أمتهم من جديد.
ولكن لن يكون هذا دون ان يتحصنوا بمرجعية الوحي التي تمنحهم الرؤية والمقياس ودليل التعامل، والرؤية من منظور إسلامي؛ لأن تلك العلوم والمعارف والجامعات توجد في بيئتها الثقافية التي انتجتها، وتنحدر من مرجعيتها التي انطلقت منها، فتجد الكتاب والمعلم وأهداف الدراسة وطبيعتها منسجمه مع قيمهم ومعايرهم واهتمامتهم، أو إن شئت فقل مع ثقافة الآخر بكل ابعادها.
فلا نريد من يعود نسخة معرفية غربية مشوهة، ولا من يرضى أن يكون معهم كترس يعمل لصالح الميكنة الغربية،ولا مستخدمين للتكنولوجيا بل مبدعين ومنشئين لها بما يتلائم ما نحتاجه لننهض.
كيفية التعامل مع العلوم الإنسانية:
ثالثا: العلوم الإنسانية:
واذا كانت الحقيقة العلمية في العلوم الطبيعية والتطبيقية واحدة والعقائد تتحكم بتوجيهها وتوظيفها، فإن العلوم الانسانية هي في حقيقتها مشبعه بعقائد أصحابها ومرجعياتهم وفلسفاتهم مهما ادعت الحياد وعدم الانحياز؛ لذلك يمكن أن تشتد عندها معركة الصراع الفكري، والسباق حول كسب الإنسان واحتوائه، ومحاولة تشكيله وفق منظوماتها الفكرية والثقافية.
ولست هنا اتكلم على من يقوم باستدعاء نظريات الآخر ومذاهبه ومحاولة قطعها وإلباسها لبوس المرجعية الإسلامية ببعض العناوين، فإن ذلك لن يغير شيئاً، بل المطلوب هو التوجه لإنتاج علماء متخصصين في الشعب المعرفية المتنوعة ينحذرون من المرجعية الإسلامية؛ ليأتي إنتاجهم منسجماً مع مرجعيتهم الإسلامية، ويمتلكون القدرة من خلال اختصاصهم ومرجعيتهم ان يكونوا شهداء على إنتاج الآخر قادرين على أخذ النافع ورد الضار.
كيف ذلك ؟
ولعلنا نقول إن الإشكالية التي تتمظهر وتتجلى في كل ما أسلفنا - إذا تجاوزنا النظرة السطحية إلى العمق - إنما تكمن أساساً في فشل العملية التربوية والتعليمية بكل ابعادها من مناهج ووسائل ومعارف ومعلم وطالب وإدارة وأسرة ومجتمع.
فالتربية هي الرحم الذي تتخلق وتنمو فيه وتنطلق منه كل المهارات والتوجه صوب بكل التخصصات وقبل ذلك وبعده تبني فيها المرجعيات فهي رحم الأمة الكبير الذي يخرج جيلا عدلا يبصر تقسيم العمل وأولياته ودور التخصصات المعرفيه في بنائه واقامة حضارته.
وبكلمه مختصرة فالتربية بكل مكوناتها هي التنمية، وما لم تصوب العملية التربوية التي تكشف الطاقات وتنمي القابليات وتوجه الأفكار وتكسب الفعاليات وترتب الأولويات وترتقي بالمعارف، وتدرب الإنسان وتنمي المعارف العلمية والمهارية والسلوكية، وتخطط للتعليم وتحسن إعداد الكتاب والمعلم، والتعاون مع الطالب، وتوفر الإداره القادرة على تصميم وهندسة وقيادة هذه الجوانب جميعا في ضوء معرفة الوحي، سنبقى نراوح في مكاننا ونضرب في الحديد البارد، ولن يكون ذلك إلا بالإدارة التربوية.
من مقدمة كتاب: الإدارة التربوية مقدمات لمنظور إسلامي ( بتصرف)
شئ جميل جدااا
ردحذف